المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام
المعرفة التاريخية: علم التاريخ والارتباط بالعلوم الإنسانية والاجتماعية

المعرفة التاريخية: علم التاريخ والارتباط بالعلوم الإنسانية والاجتماعية

المعرفة التاريخية: علم التاريخ والارتباط بالعلوم الإنسانية والاجتماعية

 

إعداد: طالب عبد الجبار الدغيم - باحث متخصص في التاريخ المعاصر

تاريخ النشر: 2021/10/25

 

يتصدر علم التاريخ قائمة العلوم الإنسانية والاجتماعية التي أخذت حيزًا في الحقل المعرفي والبحثي، فلم تعد مهنة المؤرخ مجرد نقل الأخبار وروايتها أو كتابتها كما كان الأمر سابقًا، ولم تعد العلوم الإنسانية بما فيها علم التاريخ علوم مغلقة وتخصصية لا يعلم بها ولا يناقش أصولها إلا المتخصص، بل شهدت المدارس التاريخية الحديثة انفتاحًا شاملًا على شتى العلوم الاجتماعية وبحثت في كل شيء يتعلق بحياة الإنسان، ولم تعد تحكي أخبار الماضي فأصبح هناك التاريخ المعاصر والراهن "الآني". حيث تداخلت المعرفة التاريخية مع مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، كما تداخلت موضوعاتها في مناحي المعرفة عمومًا. ذلك بأن مناهج التاريخ التي اعتمدت من الناحية البحثية على تجميع مصادر الماضي، وعلى نقد هذه الأخيرة وضبطها وعلى استخلاص الحقائق ثم إعادة صياغتها، لم يكن ممكننًا فصله، فقد تعددت حقول المعرفة التاريخية وتوسعت، معتمدةً على معطيات التجربة الراهنة، وعلى رصد عينات ميدانية في المجتمعات الإنسانية ككل.  

 

أولًا: التخصيص والتحديد في المعرفة التاريخية

يرى عبد الله العروي بأن المعرفة التاريخية هي الماضي الحاضر، إذ هو مجموع عوارض الماضي حاضرة بأخبارها وآثارها، وفحص تلك الأخبار عملية تنجز دائمًا في الحاضر. التاريخ حاضر بمعنيين، بشواهده وفي ذهن المؤرخ ومناهجه[1].

 

وفي أيامنا هذه، رغم اتساع حقول المعارف، وهيمنة الاهتمام بالعلوم الطبيعية والرياضية والطبية والهندسية على الاهتمام بما عداها، لا زالت حقيقية التاريخ ومكانته بين العلوم وطبيعته وفائدته موضع نقاش طويل بين المؤرخين والفلاسفة والسياسيين والمفكرين عامة، حيث عرض شمس الدين السخاوي في القرن الخامس عشر الميلادي في كتابه المشهور الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ بعض جوانب مشكلة علم التاريخ عند المسلمين، وأعطانا صورًا من المآخذ التي كان علماء عصره يوجهونها إلى أهل التاريخ. ولكن أقصى ما قاله في مدح التاريخ أن جعله أحد العلوم المساعدة لعلم الحديث، ولكنه على كل حال أعطانا فكرة واضحة عن مشكلة علم التاريخ عند العرب والاختلاف بينهم في الحكم عليه[2].

 

يطرح العروي في تشريحه لمفهوم التاريخ، أن التاريخيات مليئة بالثنائيات، وبالمواجهات الجدلية الدالة على اختلاف عميق بل على تخارج لا تراجع فيه: عند اليونان هوميروس وهيرودوت، الملحمة والتاريخ، وعند المسلمين الأخبار والحديث، الرواية والدراية، ابن حجر وابن خلدون؛ عند المسيحيين التاريخ المقدس والدنيوي، في القرن الثامن عشر تاريخ الباحثين وتاريخ الفلاسفة، في القرن التاسع عشر التاريخ الفلسفي والتاريخ العلمي، التاريخ النفساني والتاريخ الثقافي لدى الألمان، التاريخ المحافظ والتاريخ التحرري لدى الإنجليز، التاريخ الحربي – السياسي والاقتصادي لدى الفرنسيين في القرن العشرين، تاريخ الأحداث وتاريخ البنى.

بالطبع ليست كل هذه المقابلات في المستوى نفسه، منها ما يهم الموضوع ومنها ما يهم المنهج ومنها ما يهم الفائدة المرتقبة، لكن وجود هذه الثنائية بهذا الشكل العنيد يشير إلى أمر قائم باستمرار وهو أن المؤرخ عندما يكون مؤرخًا فعلًا يبحث عن موقع فكري خاص به، والسجال الحاصل هو دائمًا في العمق بين من يقبل الانغماس في الفكر العام ومن يستمين في إظهار الخصوصية حتى وإن أخطأ في تحديدها[3].

 

فالتاريخ منطق عام يُسيّر كل عمل وتصور وقول وسلوك كالشعر والحكمة والاجتماعيات. فالصفة الشمولية للتاريخ نجدها عند ابن خلدون مؤرخ، لأنه واع تمام الوعي أن نوعية نظرته إلى الأمور الماضية والحاضرة، لا تترك مجالًا لأي نظرة أخرى. يعرف أنه يستطيع أن يكون وهو مؤرخ، محدثًا مثل مسلم، ولا فيلسوفًا مثل ابن رشد، ولا متصوفًا مثل ابن عربي[4].

 

وأما التيار المنهجي الحديث الذي يدعو إلى التواصل التكاملي بين التاريخ والعلوم الاجتماعية في الغرب من أهم رواده المؤرخ الفرنسي بياجه الذي يقول: "وعلينا أن نشير في هذا الصدد إلى تيار كامل يهدف إلى أن يجعل من التاريخ علمًا قائمًا على أساس التعبير الكمي والبينات: فرنان بروديل ولوبران وكورتونف. وتلك وجهة نظر خصبة بالتأكيد، لكنها تعني حاليًا أن نجعل من التاريخ البعد التطوري لعلم الاجتماع أو الاقتصاد.."[5].  فهل هناك مقاربة بين الفكر الخلدوني وفكر بياجه ابن القرن التاسع عشر؟

كان ابن خلدون ابن بيئته وعصره وثقافته الإسلامية، وكانت معارف عصره متناثرة لا رابط معرفيًا بينها إلا الاستخدام الوظيفي الديني للتاريخ. أما في زمن المؤرخ بياجه عاصره مؤرخون استخدموا في مباحثهم ومناهجهم طرائق كمية ونوعية واشتغلوا على حقول إنسانية متداخلة، اقتصادية واجتماعية ونفسية ولغوية، واستخدموا كل هذا في معرفة متكاملة[6].  ولذلك عدّ مؤرخون كثر كالدكتور المرحوم محمد الطاهر المنصوري وأساتذة معهد الدوحة كما سمعنا من زملائنا السابقين، بأن ابن خلدون من واضعي قواعد مدرسة التاريخ الجديد الممتد إلى العلوم الاجتماعية المختلفة.

 

ثانيًا: المعرفة التاريخية وأشكال التداخل مع العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى

كانت الكتابات التاريخية في العصور الوسطى مرتبطة إما بأفكار دينية أو سياسة سلطانية محصورة، باستثناء بعض الكتابات التي ظهرت شرقًا وغربًا ولعل مقدمة ابن خلدون كانت مثالًا على التعبير المبكر في المنهج التاريخي العربي على سبيل المثال. وفي الفترة الحديثة كان التحام التاريخ مع العلوم الأخرى بلغ أوجه مع ظهور مدرسة الحوليات الفرنسية "الأنال" التي أسسها لوسيان فيفر ومارك بلوخ والتي رسمت البداية الحقيقية لتمدد المعرفة التاريخية إلى حقول العلوم الإنسانية، ولتأتي كرد فعل على مدرسة الوضعانية والماركسية في ألمانيا. ولتكون أكثر شمولًا من سابقاتها.

 

لم يبنِ رواد التاريخ الجديد[7] على فصل التاريخ عن بقية العلوم بشتى أنواعها، على قاعدة ما هو صحيح من العلوم وما هو تقريبي منها، وإنما على النظرة الشاملة التي تتناول الظاهرة من مختلف الجوانب، وتعتمد كل ما أمكن من الأساليب العلمية؛ رياضية وطبية وبيولوجية وجغرافية وغيرها. والظاهرة التاريخية من وجهة نظر التاريخ الجديد ليست منحصرة في مجال محدد، ولا يمكن فهمها بما يكفي من الدقة لو اقتصر الباحث في ذلك على علم واحد. وهو ما أدى إلى النظرة الشمولية والكلية للتاريخ. ليس هناك تاريخ بالتاريخ فقط، بل هناك تاريخ بشتى أصناف العلوم والمعارف المختلفة[8].

 

يطرح كارل فابر التداخل بين التاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية المساعدة من زاوية الحاجة المنهجية للنظر الفكري الذي ساعد على إعادة ترتيب الحقائق التاريخية بقوله: "إن اهتمام علمٍ مساعدٍ ما بماض ما قد لا يكون سببه أنه مضى، أو أن له علاقة معينة بالحاضر، بل قد يكون سببه أهمية الموضوع لمجال ثقافي معين. أما بالنسبة إلى المؤرخ فإن مجال اهتمامه الرئيس هو الكون الماضي، لأن المؤرخ لا يستطيع أن يتناول مادته بالترتيب والتركيب بغير وسائل فكرية وعملية معاصرة، ولأن العلوم الاجتماعية لا تستطيع تناول الظواهر إلا في الزمان ولذلك تحتاج إلى التاريخ، كما يحتاج علم التاريخ نفسه إليها"[9].

 

إن تأثر الكتاب العرب في المعارف التاريخية الجديدة ولا سيما أفكار المدرسة الفرنسية "الحوليات" بقي محدودًا جدًا، إلا اننا نجد تأثيره في المغرب أكثر من المشرق بسبب طبيعة العلاقة الجامعية والصداقات في المغرب بالجامعات والمناهج الفرنسية. وعلى الرغم من القيود الدينية والاجتماعية في تناول مواضيع جديدة في المعرفة التاريخية ومقاومة التجديد في الكتابة التاريخية، إلا أن القيود لم تمنع ممارسة بحث جريء، كالبحوث التي قام بها منذ أواخر الثلاثينيات عبد الحي شعبان فيما يتعلق بالإسلام المبكر أو الثورة العباسية، أو عزيز سوريال عطية في الحروب الصليبية. ومنهم من تناول مواضيع عميقة في التاريخ العربي والإسلامي مثل أحمد صالح العلي الذي بحث في تاريخ الألوان في الحضارة العربية الإسلامية، وهو صاحب العمل الرائع حول التنظيمات الاقتصادية أو الاجتماعية في البصرة في القرن الأول.

 

وينصف مع هذا الجيل نفسه كل من المفكرين والباحثين من العالم العربي مثل محمد الطالبي وهشام جعيط وعبد الله العروي والقادري بوتشيش، وتأثر بالتاريخ الجديد من مصر أحمد عبد الرازق صاحب العمل الجديد المرأة في العصر المملوكي ومحمد إسماعيل في كتاباته حول المهمشين في تاريخ أوروبا وتاريخ العالم العربي، وكذلك محمد حبيدة وأحمد التوفيق وعبد الأحد السبتي ومحمد الشريف وعبد الرحيم بنحادة وعبد الحميد هنية وحياة عمامو وعبد الواحد المكني، ومحمد طاهر المنصوري في كتابه لباس أهل الذمة في الحضارة الإسلامية[10].

 

هكذا نجد بأن تعددية المدارس التاريخية وخلفياتها الفلسفية طوال القرن العشرين والمساعي لربط المعرفة التاريخية بمناهج وطرائق علوم اجتماعية تبدو أو يدعي الداعون لها أنها أكثر دقة علمية وأكثر شمولًا بل أكثر اقترابًا من الحقيقة الإنسانية ذات الأبعاد المركبة، ومن هنا ممارسة أنواع من التأريخ التي تعتمد على مناهج علوم اجتماعية وإنسانية متعددة تقوم على عناوين التاريخ الكمي وتاريخ الأفكار والتاريخ الاجتماعي والتاريخ الاقتصادي. ولذلك لا يزال من ينادي من مؤرخي العرب المعاصرين بأهلنة وتبيئة المعرفة العربية في سبيل خلق معرفة تاريخية تتناول قضايانا الاجتماعية والثقافية وتقاربها مع تجارب الأمم الأخرى.


المراجع:

[1] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، ط4 2005)، 38.

[2] حسين مؤنس، التاريخ والمؤرخون (بيروت: دار المعارف، 1984)، 11.  

[3] العروي، المرجع السابق، 47 – 48.

[4] العروي، المرجع نفسه، 48.

[5] وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ "اتجاهات – مناهج – مدارس" (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط2 2013)، 388.

[6] كوثراني، المرجع نفسه، 391.

[7] يعرف التاريخ الجديد بأنه مجموعة من الإشكاليات والمناهج الجديدة، ساهمت في تجديد مجالات تقليدية كان التاريخ يعتني بها (نجد أهمها الديموغرافيا التاريخية والتاريخ الديني والتاريخ الاجتماعي..). وقد أثيرت اهتمامات مع التاريخ بالجديد بالأسطورة والتغذية والجسد والمآثر والكتاب والجنس والموت والحب، انظر: جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري وعبد الحميد هنية (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1 2007)، 14.

[8] جاك لوغوف، المرجع السابق، 14.

[9] كوثراني، المرجع السابق، 388.

[10] لوغوف، المرجع نفسه، 25 – 26.

 

 

مقالات الرأي التي تنشرها المؤسسة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المؤسسة

-------------------------------------------------------------------------------------

الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2021

تابعنا على الفيسبوك

القائمة البريدية


تابعنا على تويتر

جميع الحقوق محفوطة للمؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2024 / تنفيذ وتطوير شركة SkyIn /