المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام
المعارضة السورية بين بذور الحرية وطُعم الاستبداد -دراسة نقدية بنيوية-

المعارضة السورية بين بذور الحرية وطُعم الاستبداد -دراسة نقدية بنيوية-

 الكاتب: د.جمال الشوفي - السويداء
تاريخ النشر: 2016/09/28

 
 - مقدمة:

في تعليقه على التوجه المجرد للنظريات الحديثة في إيجاد نظرية موحدة للكون، هي نظرية كل شيء The Theory of Everything))، دون تفحص الواقع التجريبي المتقدم وبما تقدمه المعطيات العلمية الحديثة من وقائع لم تُشمل في نظرية سابقة كمومية كانت أم نسبية، يقول شلدون غلاشو Sheldon Glashow أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة هارفاراد([1]): "أن لاهوتيي القرون الوسطى اتبعوا النهج نفسه في أوربا آنذاك، وكان هذا في حقيقة الأمر، السبب في أن أوربا وحدها هي التي لم تشاهد المستعر الفائق ((Supernova[*] الذي حدث في عام 1554، لأنهم كانوا منشغلين بالبحث عن عدد الملائكة التي ترقص على رأس دبوس".

 

في الرابع عشر من كانون الأول عام 2010، استعر النجم الهائل في سماء الاستبداد الشرقي المهيمن على مقدرات الدولة الوطنية منذ حروب الاستقلال الوطني في منتصف القرن العشرين الماضي. في ذلك اليوم انفجر نجم أبو عزيزي التونسي معلناً أن الياسمين التونسي والتوليب المصري لحظة انعطاف في تاريخ الحضارة الإنسانية عامة، ومسارُ تحولٍ في حاضر الوطن العربي، القابع تحت الاستبداد وهيمنة الدولة البوليسية-الأمنية والسلطات الإقصائية والنظم الشمولية الديكتاتورية، تجاه الديموقراطية والمواطنة ومتلازمة السياسة والكرامة.

 

الربيع العربي المزهر منذ أكثر من خمسة أعوام خاصة في سوريا، والذي ينتابه صقيع سياسي وتعثر معرفي، بعد أن مر بخريف ثم بشتاء قارس، هو بالجذر: سوبرنوﭭا واقعية تطرح تحدياً كبيراً على كل الأيديولوجيات والنظريات النسقية السابقة والنخب الفكرية والسياسية، من حيث قدرتها على التقاط نفاثاتها و"كمّاتها[†]" المحدثة في الواقع السياسي والاجتماعي والمعرفي، ليشكل تحدياً على مستويات العالم الإنساني عامة. فالعام 2011 وما تلاه، عام مدهش، لا بل مذهل ومفاجئ، احتارت الاستخبارات العالمية وترددت مفاعيل السياسات الدولية واحتار المثقفون في وصف ما يحدث في أصقاعه.

 

هل استطاعت النخبة السورية ومعارضتها السياسية الالتفاف حول فكرة التغيير والانضواء، ضرورة، في مشروع وطني متكامل؟ كما التفت حول فكرة التغيير الديمقراطي في صيغة إعلان دمشق 2005؟ وهل استطاعت بناء منظومة عمل مؤسساتية تعتمد في أدائها على معايير موضوعية غير ذاتوية؟

 

في هذه الدراسة، سنحاول تحليل التجربة السياسية لأحزاب المعارضة السورية، خاصة في خضم تفاعلها مع الثورة السورية في ربيع 2011 لليوم، متتبعين سير تشكلها التاريخي، انقساماتها و انشقاقاتها، الغوص في المقاربات البنيوية للمنظومة الذهنية لهذه الأحزاب مقارنة مع أحزاب السلطة ذاتها، لنقف عند تساؤلات مفتوحة معرفياً على قدرتها  السياسية  والنمطية تلك في أن تكون رافعة لمسارات التجارب التحررية الثورية وتطلعاتها، وعوامل معاوقتها الفكرية والذهنية.

- الخلفية التاريخية:

مرت المعارضة السورية تاريخياً بمراحل متعددة تاريخية منذ هيمنة البعث كلياً على السلطة السياسية بشكل مطلق عبر ما سمي بالحركة التصحيحية في 1971. الهيمنة العسكرية والسياسية التي شكلها حزب البعث آنذاك ترجمت سياسياً بتحالف ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية([2]) والتي ضمت في حينها خمسة أحزاب هي: حزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الشيوعي السوري، حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، حزب الوحدويين الاشتراكيين، حزب الاشتراكيين العرب، والتي زادت عن عشرين حزباً اليوم([3])، وتحت قيادة حزب البعث وأمينه العام، والذي اعتبر في دستور عام 1973 قائداً عاماً للدولة والمجتمع يقود جبهة وطنية تقدمية.  

 

الأحزاب السياسية التي رأت في الجبهة الوطنية واجهة سياسية لهيمنة حزب البعث وانقلابه العسكري، عملت بين متناقضتين: انشقاق معظمها وانقسامه بين أحزاب جبهوية وأخرى معارضة، وبين قدرتها على طرح المشروع الوطني الديموقراطي. في هذا السياق من التاريخ، يمكن تتبع المسيرة التاريخية لتلك الأحزاب في مراحل مفصلية عدة كان أهمها:

 

- التجمع الوطني الديموقراطي السوري([4]) والذي تأسس في عام 1979 في مواجهة الجبهة الوطنية التقدمية سياسياً، ضم خمسة أحزاب معارضة هي: الاتحاد الاشتراكي الديموقراطي العربي- الفرع المعارض لحزب الجبهة ذاته بقيادة جمال الأتاسي، الحزب الشيوعي- المكتب السياسي/ المنشق عن الحزب الشيوعي الأم بقيادة رياض الترك، حزب العمال الثوري ومؤسسه ياسين الحافظ، حزب البعث العربي الديموقراطي -المعارض لحزب البعث الحاكم من أنصار صلاح جديد وغيرهم، حركة الاشتراكيين العرب/عبد الغني عياش وإبراهيم ماخوس. ونصت وثائقه ومنشوراته على الدعوة إلى نظام ديمقراطي وتعددي يحمي العدالة الاجتماعية ويؤمن بالتنمية الوطنية، مطالباً ببناء الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون.

 

- تتالي الانشقاقات في الأحزاب الشيوعية([5]) بشكل دراماتيكي، فالحزب الشيوعي الجبهوي انقسم إلى حزبين: الحزب الشيوعي الأم وتولت قيادته بعد خالد بكداش زوجته وصال فرحة بكداش والحزب الشيوعي الموحد بزعامة يوسف الفيصل، ويتابع انقساماته أيضاً إلى منظومة قاسيون بقيادة قدري جميل، الذي كان يرأس تحرير جريدة نضال الشعب، في خلافه مع عمار بكداش على زعامة الحزب الأصل المعروف بالبكداشي. وفي المقابل أيضاً، يتابع الفرع المعارض انقساماته إلى حزب الشعب الديموقراطي من جانب و المكتب السياسي وحزب العمل واليسار الديموقراطي من جانب آخر، والتي شكلت ما يعرف اليوم بمجموعة تيم الماركسية. وغالباً بعد عام 2011 تجد الكثير من البيانات التي تخرج فيها مجموعة من أفراد هذه الفروع عن حزبها، فالانشقاقات الحزبية تلك تحار في مسمياتها من كثرة اللواحق المضافة عليها، ولولا معرفتها بأسماء أصحابها لندر التمييز بينها!

 

- المفصل الرئيس في تاريخ المعارضة السورية قبل الثورة، أتى في انضوائها في صيغة عمل جماعي ضمت أحزاب التجمع الوطني الديموقراطي، لجان إحياء المجتمع المدني، أحزاب سياسية منفردة وهيئات حقوقية في مجال حقوق الإنسان، وعدد من الأحزاب الكردية والكثير من الشخصيات الوطنية المستقلة، في صيغة إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي عام 2005([6]) ، والذي أصدر لاحقا حزب الإخوان المسلمين تأييده له. أهمية الإعلان تكمن في نقطتين مفصلتين: أولهما أنه أتت تتويجا للعمل الثقافي والسياسي المعروف للمعارضة السورية قاطبة في منتديات ربيع دمشق في عام 2001 وتشكيل لجان إحياء المجتمع المدني حينها، والتي تضامنت مع الانتفاضة الكردية عام 2004.

 

وثانيها: في أنه طرح صيغة للتغير الديموقراطي بشكل تدريجي وسلمي شاملة لكل السوريين تتخذ من المواطنة رائزاً ومن دولة الحق والقانون هدفاً، وقد نصت أدبياته على التحالف حتى مع رجال النظام الغير ملوثين بالفساد. معروف أن أعضاء الأمانة العامة لإعلان دمشق تم اعتقالهم عام 2007 وحكم عليهم بالسجن فترات تراوحت بين خمس لعشر سنوات.

 

- مع انطلاقة الثورة السورية، تصدرت شخوص المعارضة السورية، خاصة الإعلامية منها المشهد السوري، وصدرت بيانات عدة تؤكد التحاقها في ركب الثورة الشعبية وتوجهت إلى تشكيل جسم سياسي يقود المرحلة الثورية، ونتج عنها المجلس الوطني السوري([7]) بعد لقاء اسطنبول الذي ضم: إعلان دمشق والإخوان المسلمين والمؤتمر السوري للتغير الوطني وكتلة من الأحزاب الكردية وهيئات الحراك الثوري من لجان التنسيق المحلية والهيئة العامة للثورة، وجاء في نظامه الأساسي([8]) هدفه: إسقاط النظام بكل رموزه.

 

- في نفس الفترة تقريباً، وفي أواخر 2011 دعت أحزاب معارضة كانت موجودة في كتلة إعلان دمشق واختلفت مع قيادته وانسحبت منه، إلى مؤتمر عام داخل سوريا وفي مدينة حلبون السورية، نتج عنه هيئة التنسيق الوطنية([9]) كان على رأسها حزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة حسن عبد العظيم ومجموعة تيم الماركسية، مطلقة لاءاتها الثلاث:

لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي و دعت في بيان تأسيسها([10]) لإسقاط النظام الأمني الاستبدادي.

 

- رأى الكثيرون أن صيغة المجلس الوطني صيغة متفردة بقرار الثورة، وأنها لم تقدم للثورة سوى الخذلان الدولي، وإنها صيغة غير جامعة لقوى المعارضة السورية، وحصلت به العديد من الانشقاقات التي يمكن تفصيلها في أكثر من موقع مرجعي([11]) ، لتأتي مؤخراً صيغة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية([12]) الذي نتج عن مؤتمر الدوحة في أواخر 2012. الائتلاف الوطني لاقى دعماً عربياً ودولياً واسعاً واعتبر ممثلاً للشعب السوري([13]). خاض الائتلاف جولتي تفاوض مع النظام وعاد لتشكيل الهيئة العليا للتفاوض بعد مؤتمر الرياض 2015  ليجد اليوم شعبيته الجماهيرية متراجعة، وليس فقط بل تراجع دولي وعربي كبير في دعمه واعتباره ممثلاً للشعب السوري.

- تساؤلات مشروعة:

هل كانت الانقسامات المتتالية في الأحزاب السورية ذات منشأ معرفي أم نفعي؟

 وهل حملت في طياتها بذور مراجعة نقدية فكرية سياسية لمناهج ونظريات عملها؟ فكل الأحزاب المعارضة المنشقة عن أحزابها الأم بقيت تحمل في مرجعياتها المضامين الأولى والمرتكزات الأساسية الأيديولوجية ذاتها للحزب الأم الذي انشقت عنه!

هل استطاعت الأحزاب المنقسمة تشكيل بدائل عمل سياسية شعبية؟ وما مدى قدرتها على نقد النظرية الأم واستخلاص نتائج نظرية مختلفة تؤسس لعمل سياسي مختلف هوية وصفة؟

ماهي النقاط المحدثة في الواقع السياسي والمعرفي لهذا التشعب السياسي؟

 

قد يتحدث العديد من الباحثين والمهتمين بالشأن السوري عن خلافات تتبع لامتداد اليد الأمنية في معظم تلك الانقسامات، ويبدو هذا كلام واقعي لكنه هل يكفي الغرض التحليلي والتفسيري؟ هذا إذا ما وجدنا أن أحزاب المعارضة التاريخية ذاتها هي عرضة للانقسام أيضا كتلياً وحزبياً، فخروج كتلة الاتحاد الاشتراكي – حسن عبد العظيم من صيغة إعلان دمشق أثناء انتخابات أمانته عام 2007 ذات دلالة نمطية يمكن تلمس نتائجها المستقبلية في ظل الثورة السورية؟ وإلا كيف يمكن تفسير رفض هيئة التنسيق الوطنية أن يكون الائتلاف الوطني السوري ممثلا للشعب السوري في الجامعة العربية([14])؟ وما تبعه من انشقاق عريض في قواعد الاتحاد الاشتراكي عن قياداته. وما معنى انفكاك معظم هيئات وأحزاب إعلان دمشق عنه والذي كان آخرها انشقاق كتلة كبيرة من حزب الشعب بعد خلافات مع القيادة في المركز أواخر 2015([15])؟

 

الفالق السياسي الكبير حدث في الأحزاب الكردية المعارضة والغير معترف بأهلية وجودها الكردي أساساً من قبل النظام، خاصة حزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني بقيادة صالح مسلم في عام 2014 وما تلاه، أحد أحزاب إعلان دمشق بداية وهيئة التنسيق الوطنية لاحقاً والمتحالفة مع شخوص معارضة سياسية كهيثم مناع وغيره، وإعلانها نزعة انفصالية عن المشروع السوري الوطني، والقيام بأعمال قتالية ضد الفصائل الثورية السورية ذاتها واعتقال معارضين سوريين وصلت لدرجة وضع قيادات في المجلس الوطني الكردي تحت الإقامة الجبرية والنفي خارج البلاد ([16])؟

 

ليس فقط، بل يمكن تتبع العديد من الانقسامات في التشكيلات السورية سواء في لجان التنسيق المحلية والهيئة العامة للثورة والعديد من قوى الثورة العسكرية والسياسية أيضاً؟

 

تبقى الأسئلة المشروعة المطروحة لليوم: هل هي انقسامات تتعلق بالمصلحة السياسية؟ ما هي ضروراتها التاريخية في ظل الثورة؟ هل كانت الدول الداعمة ذات أثر بالغ في تداعيات هذه الانقسامات والمواقف؟ ما المعنى الغرضي من تبادل كيل الاتهامات الغير منتهي بين قوى المعارضة السورية قاطبة، وهي التي التقت أصلاً في صيغة التجمع الوطني الديموقراطي ومن ثم إعلان دمشق على التغيير الديموقراطي ولاحقاُ في هيئات الحراك الثوري ذاتها، وصلت لعد اللافتات التي تؤيد جهة خلاف أخرى في أيام الحراك السلمي؟

 

تبدو كل الأسئلة مشروعة من حيث المبدأ، و لربما تدخل الكثير من الحقائق الواقعية في سياق التفسير كإجابات أولية في هذا الحد أو ذاك. لكننا توخينا في هذه الدراسة الإضاءة على منظومة معرفية تشكلت تاريخياً في رحم الاستبداد الشرقي ونهلت من معارفه وثقافته، ما يعطينا دلالات بحثية منهجية تأخذ بالعمق المنظومة والذهنية والأيديولوجيا كحالة مستمرة لم تحقق انقطاعاً معرفياً مع الاستبداد، بقدر انقطاعات سياسية آنية قابلة للتغير لمواقع متناقضة عدة.

- النمطية الذهنية و القواسم المشتركة:

مصدرا الخطأ حسب إلياس مرقص في (المذهب الجدلي والمذهب الوضعي)، معرفي "غنزولوجي" ونفعي، فالإنسان، كما المؤسسات والهيئات يأتيه الخطأ من كل جانب. ولا يمكن نسج صيغة تبريرية لهذه المقولة بقدر الوقوف عند الدراسة والتحليل والنقد الموضوعي بغية الوصول إلى نقاط استناد معرفية تشكل حافزاً على التصويب والتصحيح وأساساً للتغير. في دراستنا هذه، سنعرض عن الخوض في الأخطاء المركبة ذات البعد القيمي الأخلاقي، في محاولة موضوعية لتجاوز مفهومي المؤامرة والارتهان للخارج. فهما مفهومان قاصران معرفياً وسياسياً أيضاً– وان كانت لبعضها دلالات غرضية – وعرضة للتغير الزمني وقصره ومدى تأثيراته النفعية،

 

ومن جانب آخر، تتوخى الموضوعية والمعيارية في التحليل الولوج في العمق المعرفي الذي يشكل منظومة فكرية وبنية معرفية وليس فقط، بل أدوات عملية في التعامل مع الواقع وفق متغيراته السياسية، ما يستلزم ضرورة النقد المنهجي للأطر البنيوية المشكلة لموضوع دراستنا محاولين تقصي مفرداتها ومفاهيمهما الفكرية والذهنية، علنا نوفق في التأسيس لمعرفة نقدية تستكمل خطواتها مع الزمن ومتغيرات الواقع الفعلية.

 

فلزمن ليس ببعيد قدمت ((الماركسية)) مفهوماً أرخى بظلاله على عدد غير قليل من ثوريي العالم وحركاته التحررية في القرن العشرين الماضي، هو مفهوم ((الثورة)) وقيادة الحزب الواحد لها، مدعماً بطبقة من النخبة الثورية (الانتلجنسيا) وبامتداد أفقي في حنايا الطبقة العاملة (البروليتاريا) صاحبة الثروة الحقيقية والغائية في التغيير.

 

وقد درجت أحزاب المنطقة العربية على الاستقاء من النهج ((الماركسي)) وتطعيمه بصبغة محلية قومية إلى هذا الحد أو ذاك، لتستحيل في نهاية أمرها: إما إلى أحزاب سلطوية متفردة وقمعية وشمولية بحلة عسكرية خالصة وقبضة أمنية قوية استباحت الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي (البعث بشقيه السوري والعراقي، المؤتمر اليمني، الوطني المصري، الكتاب الأخضر واللا تحزب الليبي...)، وحولت الدولة إلى نسق سلطوي مفرغ من مؤسساتها، مقصية بهذا كل من يخالفها الرأي حتى ولو كان من ابن "جلدتها" نهجاً وفكراً، لدرجة العداء بين قطرين متجاورين بفعل انقسام الحزب الحاكم نفسه كما حدث في العراق وسوريا بين بعث "يميني" و"يساري"([17]). أو معارضة تقليدية بقيت على هامش الحياة السياسية والاجتماعية تطولها يد التنكيل وتمتد يد المخابرات بكل زمن وطور فيها، وتطالها الانقسامات السياسية بمرور الزمن سواء كانت ذات أصول ماركسية أو قومية، كما أسلفنا أعلاه.

 

ولم تكن فكرة الزعيم الوطني، أو القائد الفذ، بعيدة عن ذهنية الحكام العرب ومعارضيهم في ذات السياق، فقد كانت صورة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كزعيم أمة نموذجاً ملهماً لكل من حكموا جمهوريات المنطقة العربية، ولقادة أحزابها "سلطويين" و"معارضين"، تلك الجمهوريات ذاتها التي اجتاحها الربيع العربي: تونس، مصر، ليبيا، اليمن وسوريا.

 

وحيث لا يمكن محاكمة التاريخ من وجهة نظر سياسية واحدة لتشابه الأحداث وتكرارها، إلا أنه من الضروري تتبع العديد من الأدلة والحقائق الواقعية التي تشير إلى بيئة ذهنية عامة في قواسم مشتركة عدة، لا تكفيه دراسة بحثية واحدة ومختصرة كهذه. فيمكن للمقاربات السيسيولوجية والمقارنات الأبستمولوجية (المعرفية) ، أن تمثل إطار مقارنة دقيق وموضوعي ومجال بحث آخر أكثر شمولاً وتفصيلاً. وهنا، إن الخلفية التاريخية والبيئة المعرفية التي تشكلت فيها أحزاب المنطقة الفاعلة على مستوى السياسات المحلية وخاصة السورية منها، وذلك بغض النظر عن منبتها "الماركسوي" أو "القوموي"، مستبعداً النموذج الإسلامي لعدم اكتمال تجربته السياسية والسلطوية بعد، يمكن لها أن تجد جملة من القواسم المشتركة بين أحزاب السلطة والأحزاب التقليدية المعارضة لها، يمكن تتبعها وإيجازها في النقاط الرئيسة  التالية:

1-    "الشخصنة" والقيادة المطلقة:

"شخصنة" الأحزاب السياسية وتمركزها على شخصية كاريزمية ذات قبضة حديدية، هي ملهمة ((التغيير الثوري)) المزعوم وصاحبة النظريات والمنطلقات الفكرية. فبينما تتموضع أحزاب السلطات على أجندة أمنية مترابطة وممنهجة في فعلها وآليات عملها خلف قيادة تاريخية لشخص الحاكم استئثاراً للسلطة بشكل مطلق تدوم ما دام على رأس السلطة. فكل رؤساء الجمهوريات المشار إليها أعلاه بقوا حكاماً ما داموا على قيد الحياة تعززها شعارات التأبيد والتخليد، ويعتبر المس بشخوصها مساً بهيبة الدولة كلها تستوجب حرق الأخضر واليابس، وقد أثبتت تجارب الربيع العربي كافة ذلك وكيفية التعامل السلطوي الأمني معها خير دليل واسع الطيف على ذلك. في حين، كانت أحزاب المعارضة دائمة الانشقاق والتقسيم وذلك كلما اختلف شخص بارز في الحزب مع أمينه العام حتى لدرجة تسميتها بأسماء أمنائها! والأحزاب الشيوعية والقومية في سوريا خير دليل على ذلك([18]).

 

وقد استمرأ البعض، لعبة السلطات في تعزيز نفوذ أفراد على حساب آخرين بغية القليل من المكاسب الإدارية أو النفعية بديلاً عن العمل السياسي الفعلي ما أنتج بنفس السياق أحزاباً متحالفة مع السلطة وأخرى معارضة وكلاهما من المشرب الأيديولوجي نفسه([19]).

2-    التحالف السياسي- العسكري:

هيمنت أحزاب السلطة على مجالس الشعب أو ما يسمى "البرلمان" مستقويةً بمصالحة تاريخية بين كبار ضباط الجيش والتجار ومتسلحة بهم للدفاع عن وجودها المهيمن بشكل مطلق، فعسكرت المجتمع ونزعت عنه صفاته المدنية والسياسية([20])، لتحيله تباعاً إلى مجتمع الأهليات والأقليات والطوائف والإثنيات لاحقاً. مُعززةً بذلك الانقسامات العمودية الدينية والطائفية والعشائرية (العلاقات ما قبل الدولة) بدل تكريس العلاقات المدنية القائمة على مفهوم الفرد السياسي والمنتمي لمؤسسة مدنية أو سياسية مبدئياً([21])، ما جعل مفاهيم المواطنة والانتماء والهوية تنسلخ عن مقوماتها المعرفية العامة وتحيل مؤسسات الدولة إلى أدوات عمل سلطوية نفعية ليس إلا، تعتمد منظومة الولاء والتبعية والرئيس  والمرؤوس ولغة الأمر والطاعة في الحكم لتهدم كلية العمل المؤسسي ووضعية قوانينه.

 

هذا من جانب، وفي الجانب الآخر انجرفت أحزاب المعارضة للتقوقع خلف أيديولوجياتها (قومية كانت أم ماركسية أو إسلامية) منسلخة عن الواقع الشعبي والحياة اليومية عازفة عن العمل السياسي والهموم الفعلية للمواطن، مكتفية بالحفاظ على أيديولوجيتها إن أمكن دون وجود سياسي محقق. وفي سياق متصل، يمكن اليوم إفراد دراسات عدة تلقي الضوء على آلية إدارة الثورات في مرحلتها العسكرية وطرح تساؤلات منهجية عدة في خضم فوضى الثورات ومتغيراتها السريعة، لكن التساؤل المفصلي في كل ذلك: هل ثمة فارق بين عسكر يحمون الحدود وعسكر يحمون السلطة؟ وسنترك الإجابة لمستوى الدمار الذي خلفه جيش الوطن في وطنه! وهل يمكن لأي بناء مستقبلي لا يحدد وظيفة العسكر ولا ينساق خلف ثوريتها عاطفياً أو أيديولوجيا ألّا يعيد بناء منظومة الاستبداد والهيمنة ذاتها ما لم تفصل سلطات الدولة معرفياً أولا وإجرائياً ثانياً؟ وللتجربة المصرية الحديثة كفاءتها وإشارتها الدلالية الأولى في ذلك.

3-    الجمهرة وتغييب الشعب:

الجمهور، أو الجمهرة سياسياً هم من تجمهروا مؤيدين لسلطة بعينها أو لنسق معين خلاف غيره، وقد يبدو هذا صحيحاً من حيث ممارسة تداول السلطة سلمياً وديموقراطياً. لكن الأحزاب السلطوية الحاكمة استأثرت بالسلطة كلياً وصهرت الدولة ومؤسساتها في ذاتها الحاكمة فقط، مقصية كل معارضيها ومحولة الشعب إلى جمهور محتوىً سياسياً بهياكل ((مؤسسية)) و((نقابية)) و"جمعيات أهلية" مفرغة من العمل السياسي وتابعة لمنظومة الحزب الواحد وعقائديته المريضة، وقد برعت "حنة أرندت" في تحليل هذه الظاهرة في تفنيدها لأسس الديكتاتورية ونظم عملها([22]).

 

فحيث أن الشعب هو عام المجتمع بكل تعييناته ومضامينه الفكرية والسياسية والاجتماعية موالية كانت أم معارضة، وهو أيضاً تعيين الدولة بكل مكوناتها السياسية والاجتماعية، حزب السلطة جعل المعادلة ((الوطنية)) هي الموالاة المطلقة المتجمهرة وإلا فتهمة التخوين والتآمر هو النقيض المباشر لكل عمل معارض أو فكر مخالف سواء كانت المعارضة للسلطة أو معارضة المعارضة ذاتها.

4-    الانقطاع عن الجذور الفكرية:

انقصفت أحزاب السلطة عن جذورها الفكرية الأولى وشعاراتها الثورية لدرجة استئصال مؤسسيها الأوائل من حياة الحزب الفكرية والسياسية، كما حصل في حزب البعث في سوريا، فكل من عفلق والبيطار أو الأرسوزي لا وجود لهم في معارف جمهور الحزب إلا بلغة التخوين. وهذا ما يتناقض مع أفكار وشعارات الحزب نفسه والقائمة أساساً عليه، لتتحول مفاهيم الوحدة والحرية ولاشتراكية إلى مجرد شعارات وأدوات إحكام سيطرة وهيمنة محض إعلامية وترديد أعمى لمقولات لم تحقق سوى الاستبداد والهيمنة والنزعة القطرية الفجة.

 

وهذا ما ينسحب على أحزاب المعارضة أيضاً وبنسب متفاوتة (اجتناباً للتعميم)، لتنسلخ هذه الأحزاب -سلطوية أو معارضة- عن مرجعياتها الفكرية وتنزلق في مصاف الشخصنة وسياسة التبرير والمراوغة دون مراجعة نقدية أو فكرية جذرية، كما انسلاخ الأحزاب الماركسية عن اللينينية الفكرية والجدلية المنهجية.

5-    طلاق الديموقراطية:

انداحت الأحزاب السلطوية في حيثية قطرية ضيقة وأغلقت الأبواب على حدودها مطلّقة الديموقراطية من المعادلة الوطنية([23])، مكتفية بالشعارات القومية الرنانة وبآمال الوحدة العربية المخادعة، بغية صرف الأنظار عن مضمونها الاستبدادي وتفردها بالسلطة ونهب موازنة الدولة ومقدراتها تحت شعارات وهمية مقاومة وممانعة لتحرير فلسطين ودعم الجيوش المزعومة. ولم تقف عند ذاك بل اجتاحت أقطارٌ أقطاراً أخرى مجاورة لها (اجتياح العراق للكويت مثلاً)، وشنت أنظمةً حرباً على شعوبها المنتفضة لأجل الحرية (سوريا، اليمن، ليبيا ..).

 

في حين أن أحزاب المعارضة تشتت بين انطوائها تحت جناح السلطات (الجبهة الوطنية التقدمية في سوريا مثلاً) تتبعها في كل قراراتها وسياساتها المحلية والعامة، منسلخة عن أهدافها ((الأممية)) أو ((القومية)) على حد سواء، أو تغرق في سباق محموم وتنافس ذرائعي بين أفرادها على قيادة المرحلة الحالية أو الانتقالية بديلاً عن السلطة القائمة، ما جعل الديموقراطية مفهوماً ضحل سياسياً لا يمت بصلة لعمقه المعرفي في الحرية والمواطنة، بقدر تركيز هيمنة الرؤساء والأمناء العامين للأحزاب التاريخية.

- الثورة السورية والتجربة العملية:

من يرقب المشهد السياسي السوري اليوم، يجد كماً هائلاً من الهيئات والمنابر والتجمعات السياسية المتشكلة، وهي من حيث المبدأ، تبدو الرافعة الأساسية للحياة السياسية والمدنية في مستقبل سوريا، وكذا هي اللبنة الأساسية في إنتاج عقد اجتماعي جديد تتشكل على أساسه الدولة المنشودة للثورة. إن كل هذه التشكيلات السياسية و المؤسسات والمنابر المتشكلة هي نتاج ثورة الشعب وتضحياته الجسام، ومع هذا لازال الانقسام الحاد حول الأجندة الوطنية هو مميز هذه المكونات الأبرز، فكل فريق يعتقد نفسه في مقدمة الحدث السوري إن لم يكن متفرداً به.

 

السؤال المهم هنا: ماذا سينفع هذه الكتل السياسية أن تستيقظ على خلاف أحلامها، وأنها لن تجد مكاناً لها في سوريا القتيلة ما لم يحدث التغيير الديموقراطي المطلوب لدولة المواطنة والحريات؟! السوبرنوﭭا العربية عامة والسورية خاصة تمضي من حيث المبدأ إلى:

  • هدم الاستبداد السياسي والدولة الأمنية الديكتاتورية.
  • استعادة حق الحياة والمواطنة تحت سقف عدالة القانون.
  • بناء دولة المؤسسات والعمل المنظم لا شفاعة السلطات والمتنفذين.
  • إطلاق الحريات العامة والإبداع الفكري وحرية المعتقدات.
  •  

في حين، خاضت الأيديولوجيات الحزبية السياسة عامة والمعارضة منها خاصة، تنافس بيني على حجز مكان لها في السلطة القادمة الحالية أو البديلة، ظناً منها بسهولة قطفها، بطرق عدة:

 

  • تشكيل تحالفات سياسية راديكالية نفعية قصيرة الأمد، غرضيتها الأولى تنافس تاريخي سياسي ليس إلا، كما في صيغتي هيئة التنسيق في مقابل المجلس الوطني، ما أدى للكثير من الكم الفوضوي من هذه الكتل المتشضية تباعاً والمعطلة لأي صيغة عمل وطني متكامل.
  • تحالفات إقليمية انفصالية خاصة في جانب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني مستثمرة مظالم الشعب الكوردي التاريخية السياسية والثقافية.
  • الانسياق المتعجل وغير المدقق خلف شعار إسقاط النظام، ما جعل إمكانية الانزلاق السهل لتحالفات غير منضبطة تتخارج مع الرؤية العامة للمشروع الوطني (يمكن مناقشتها ثورياً في دراسات أخرى).
  • إنشاء تحالفات وقوى سياسية ذات بعد قَبْلي ومحلوي عشائري أحياناً أكثر ارتباطاً بالدول المانحة منه بمؤسسات الثورة السورية ومشروعها الوطني على ضعفها، وتفكك لجان التنسيق المحلية والهيئة العامة للثورة دلالات تفسيرية كبرى في هذا الجانب.
  • إنشاء منصات ولجان "حقوقية" و"مدنية" متعددة الأغراض تمتعت بصلاحية العمل الداخلي تحت عنوان معارضة داخلية وطنية تعمل نفعياً، بصيغة "علمانية" مبتذلة، وترقب ثورة من خيالها لا من وقائع الأرض، كتيار بناء الدولة، وهيئة العمل الوطني ومنصة حميميم وغيرها الكثير.
  • بروز البيروقراطية والاستئثار والتنافس الكتلي الفاضح بين مكونات القوى السورية المتشكلة وآخرها الائتلاف وحكومته المؤقتة على حساب المسألة السورية وبعدها الوطني العام، ما جعل الفراغ السياسي الحاصل في مدن وبلدات سورية محررة عرضة للاستثمار المحلي مرة والمتطرف أخرى، أو فقدان العمل الجاد لمنع تهجير المدن المحاصرة بدلاً من فك حصارها.

 

ولسنا لنقلل من شأن الجهود الفردية المخلصة والوطنية والكثيرة بهذا السياق، لكنها لليوم لم تشكل فارقاً مؤسساتياً عاماً، فبذور الحرية نمت في رحم الاستبداد الشرقي، و أحزاب المعارضة التقليدية طُعّمت – بسوريا خاصة- بطعم الاستبداد البنيوية ذاتها، فلم تستطع لليوم أن تخرج من أمراض السلطة، ولا أن ترتقي لمستوى الدم المستباح لأكثر من خمسة أعوام، فزعيم كل فئة فيها يرى في ذاته إما أنه رئيس قد اغتُصِبت السلطة منه بفعل السلطة الموجودة، أو أنه مشروع رئيس قادم بلا العودة لمرجعية الشعب أو صندوق الاقتراع، خاصة في إدارة المرحلة الانتقالية، وهذا ما يلقي بظلاله المفعمة بالسواد على واقع ترهل المعارضة الوطنية في سوريا وعجزها البنيوي:

 

- فالنفعية كانت بديلاً عن النقدية المعرفية ما قوض قدرتها العلمية والعملية على بناء مؤسسات سياسية ومدنية بمرجعية وطنية موحدة، بقدر خوضها في تشتت وتنازع مرجعيات لا منتهٍ.

 

- أيدولوجية القراءة لمتغيرات المنطقة السياسية والدولية وموازين قواها وافتقارها لمنظومة معيارية لتحديد آليات عمل الدول الكبرى ومصالحها وما تلاه من خيبات أمل متتالية.

 

- عدم قدرتها على إنتاج مفهوم الدولة المحايد تجاه كل الأطراف السياسية فيها وقوننته مؤسساتياً، ومحاولاتها الدائمة ليَّ عنق المفهوم لصالح كتلة سياسية دون أخرى ما يجهض مقومات العقد الاجتماعي المفترض لثورة الحريات والديموقراطية والكرامة.

 

- تكرار تجاربها السياسية بذات المنظور الضيق لاستبدال سلطة بسلطة أو قيادة جبهة كجبهة البعث، أثبت فشلها الداخلي وأبعد الشارع الشعبي عنها ليبحث عن بدائله المحلية والممكنة.

 

- تخلي الكثير من القوى الإقليمية والدولية الداعمة لها والعمل على تهميشها من الخارطة السياسية، إلا باستثناء ما يخدم مشاريع تلك الدول ومصالحها السياسية دون النظر لمأساة الشعب السوري.

 

- عدم قدرتها وتأخرها وقصورها الذاتي على إيجاد حامل سياسي مشترك ومنظم لمتغيرات الثورة من سلمية/مدنية إلى عسكرية ومسلحة بمنظور وطني متكامل في صيغة مجلس رئاسي سياسي-عسكري يلبي حاجيات الثورة بمتغيراتها السريعة.

- خاتمة:

إن النجوم كالبشر تحيا وتموت، ومع كل موت لنجم هناك حقيقة كونية تتولد، فإما أن نراها بعين الباحث والمتقصي، أو أنها ستحدث ونحن لازلنا نعد الملائكة الراقصة على رأس دبوس أو الشياطين القابعة في مخيلتنا هوساً في كرسي السلطان وشهوة الحكم!

 

إن كل النظريات التقليدية اليوم باتت على محك التجربة والفصل العملي وتحت مجهر التجربة الثورية الدقيق. فالأممية المبنية على ((الماركسية)) لم تتمكن من احتواء فكرة الشارع بعمومه وتنوعه لتقف عند حدود الصراع الطبقي والانتلجسيا والبروليتاريا الثورية وقيادتها.

 

و((القومية)) لم ترى لليوم بعد ضرورة بناء الدولة الوطنية أولاً، وأن عودة التزاوج بين القطرية والديمقراطية يعني أولاً بناء الدولة الوطنية وفضاء الحرية ورؤية الوطن الواحد المتمتع بهويته المدنية والدستورية العصرية، والذي قد يفضي مستقبلاً إلى إمكانية طرح مشروع قومي أو إقليمي أو خلافها على أسس جديدة لواقع الدولة ومقوماتها المحدثة ونقاط تقاطعها ومصالحها الاقتصادية والسياسية.... كما أن كل شعارات ((الممانعة)) و((المقاومة)) سقطت عنها أوراق التوت واحدة تلو الأخرى أمام أول رصاصة أطلقت مماً كان يسمي بالجيش الوطني على الشعب وثورته لتصدح الحناجر مطالبة بالكف عن الاستنساخ العقائدي الذي لم يحرر شبراً من الأرض.

 

سيخطئ المفكرون والمثقفون والقوى السياسية إذا ما استمروا بقراءة الواقع العربي المحدث والسوري منه خاصة، وفق نظرياتهم ومفاهيمهم السابقة، وعليهم اليوم ودون تردد التوجه لكمّات الواقع المنبعثة والعمل على تلافي منزلقاته الفئوية والغرضية والانكفائية، فالدولة الوطنية ضرورة تاريخية لعقد اجتماعي أولى بُناه الحرية والكرامة والإعلاء من شأن الإنسان صانع كل النظريات والمفاهيم وفوق الإيديولوجيات والفرق السياسية جمعاً. وكذا المعارضات السياسية وكتلها الهشة، إذا ما بقيت متمترسة خلف أيديولوجياتها السابقة ومعتقداتها السياسية ورؤاها السلطوية ونزعتهم النفعية الضيقة، وقد تكون زائلة قبل زوال السلطات ذاتها وربما معها.

 

الثورات لا تتوقف ولازالت مستمرة سواء كانت "المعارضات" بمستوى الحدث أم لا، لكن الدولة المنشودة كنتاج لها باتت قاب قوسين من التساؤل في قدرتها على التحقق والتوقعن كما ترغب، ويستحضرني قول عبد الرحمن الكواكبي([24]) ذات يوم: "هي كلمة حق وصرخة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غداً بالأوتاد"، هي كلمة حق إذا، تخرج من عمق المأساة الإنسانية والسياسية والمعرفية والأخلاقية العالقة اليوم والمستمرة، وكلي خشية أن تمتد ردحاً من الزمن يكون على حساب الدم المراق كل يوم والدمار العام، ما يجعل المسافة مفتوحة أمام كل الحلول السيئة خلاف كل تضحيات السوريين.

 

ثمة محاولات عدة تتوخى تحليل التجربة السورية السياسية المعارضة، وربما تحتمل وجوهاً عدة من طرق البحث الرقمي والمعلوماتي، لكن، بغية فتح الحوار النقدي والمساهمة في التأسيس لوعي مقارب، يتساءل جدلياً حول البنية والبيئة الذهنية، تم تناول موضوع الدراسة من هذه الزاوية وفقط، لتبقى المسألة الوطنية والقضية السورية مفتوحة على كل الاحتمالات، ولسنا إلا لنحاول رؤيتها بعين التدقيق بحثاً عن هوية تكاد تذروها كل حطام وبواقي الأيديولوجيات.

 


 

 الهوامش:

  [*] السوبرنوﭭا Supernova: هي حادثة انفجار نجم في إحدى مجرات الكون والتي تحدث كل عدة عقود مرة واحدة فقط، حيث تصل نفثات من الأشعة الكونية ما تحت الذرية ناتجة عن تفكك النيترونات والبروتونات تندرج في مجال القوة النووية الشديدة، وتلقي الضوء وبشدة على مكونات المادة الأولى أو المسماة العناصر الأولية Elementary Particles . وقد بني لهذا الغرض العديد من المسرعات العملاقة تعتمد خاصية التصادم الرأسي بين البروتونات للحصول على مكوناتها ما تحت الذرية، وبات وجود هذه المكونات حقيقة علمية مثبتته تجريبيا ومستخدمة تقنيا في مجالات متعددة، لكن الحيز النظري للفيزياء الكلاسيكية (أو التي باتت كلاسيكية اليوم بعدما كانت ثورية لوقت قريب) بما فيها النظرية الكوانتية حديثة العهد لازال متأخراً عن إيجاد نظرية علمية حديثة تشمل معطيات الواقع التجريبية هذه، وهذا تحدي فعلي لكل النظريات بما فيها (الوترية والكمومية اللونية) في قدرتها على اثبات وجودها الحقيقي المفسر لكل الظواهر التجريبية الراهنة بهذا السياق. ومن المفيد ذكره أن آخر انفجار كوني لنجم حدث في عام 1987 في فضاء ماجلان.

 

[†]  كمات، وأصل الكلمة Quantum  وجمعها Quanta وهي مصطلح فيزيائي يشير إلى طريقة تحديد مفهوم الطاقة وعلاقته بالمادة بشكل كمي ويربط بين مثنوية المادة-طاقة، فما نراه مستمراً بالعين المجردة في الحقيقة هو تفاعل محدد بين كمات منفردة مع المادة ومنها أتى ميكانيك الكم.


 

- المراجع:

[1] Davies P., Brown J., "Superstrings, The Theory of Everything", Cambridge University Press, 1992.

[2]  أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، قسم البحوث والدراسات، الجزيرة-نت، 2004/10/30.

[3] - موقع مجلس الشعب السوري، الأحزاب المرخصة في سوريا حتى 2015/01/21.

[4] - حنا، عبد الله، الأحزاب السياسية في سوريا القرن العشرين أجوائها الاجتماعية، E-Kutub، 2011.

[5] - عثمان، هاشم، الأحزاب السياسية في سوريا السرية والعلنية، رياض الريس للكتب والنشر، 2001.

[6] - إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي، الموقع الرسمي، 2016/08/01.

[7] - إعلان البيان التأسيسي للمجلس الوطني السوري المعارض، الإمارات اليوم، 2011/10/02.

[8] - النظام الأساسي للمجلس الوطني السوري، الموقع الرسمي، 2011/11/29.

[9] - هيئة التنسيق الوطنية المعارضة في الداخل لا حوار مع السلطة، الشرق الأوسط، 2012/04/19.

[10] - البيان التأسيسي لهيئة التنسيق الوطنية، موقع هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي،2012/04/19.

[11] - المجلس الوطني السوري.. حيث لا صوت يعلو فوق صوت الانشقاقات، عربي برس، 2012/08/26.

[12] - الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الجزيرة نت، 2012/12/13.

[13] - النظام الأساسي للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الموقع الرسمي للائتلاف, 2013/04/23.

[14] - حسن عبد العظيم يرفض، طريق اليسار، عدد 58، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي 3/2014.

[15] - عزيزة، طارق، أزمة في حزب الشعب الديموقراطي السوري، الحياة، 2015/09/16.

[16] - بارفي، باراك، بروز «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«قوات سوريا الديمقراطية»، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، 4/2016.

[17] - الفكيكي، هاني، أوكار الهزيمة، رياض الريس للكتب والنشر، 1993.

[18] - الملف الكامل للأحزاب والحركات السياسية المعاصرة في سوريا، مجلة أبيض واسود، العدد 129، 2005.

[19] - نعيسة، غياث، الحزب الشيوعي السوري .. انشقاقات وانحطاط، الحوار المتمدن، 2016/03/28.

[20] - النقيب، خلدون، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، 1991.

[21] - بشارة، عزمي، المجتمع المدني/ دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998.

[22] - أرندت، حنة، أسس التوتاليتاريا، ترجمة أنطون أبو زيد، دار السافي، 2016.

[23] - الجباعي، جاد الكريم، وردة في صليب الحاضر، رابطة العقلانيين العرب، 2008.

 [24]- الكواكبي، عبد الرحمن، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، 1903.


 

 

____________________________________________________________________

(للاطلاع على الدراسة كملف pdf يُرجى تحميل الملف المُرفق أسفل الصفحة)

---------------------------------------------------------------------------------------

الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2016

207.29 كيلوبايت

تابعنا على الفيسبوك

القائمة البريدية


تابعنا على تويتر

جميع الحقوق محفوطة للمؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2024 / تنفيذ وتطوير شركة SkyIn /